من المظلومية إلى الطغيان

يمنات
نايف المشرع
في اليمن، كما في بلدان عربية أخرى، برزت الجماعات الدينية واصفت نفسها إنها صوت المظلومين، وحاملة رايات التغيير للشعب في وجه فساد واستبداد النظام.
لكن التجربة أثبتت أن المظلومية وحدها لا تصنع مشروعا عادلًا، وأن الضحية قد يتحول – حين تميل له” الكفة” إلى جلاد أكثر قسوة ممن سبقه، لا بدافع الانتقام فقط، بل باسم الدين والحق الإلهي والمشروع الخالص.
هذه الجماعات التي كانت بالأمس تشتكي من التهميش والحرمان، وتدعو إلى العدالة والمساواة، ما إن وصلت إلى مفاصل الدولة، حتى استعادت أدوات الطغيان وأتقنت استخدامها وابتكرت احدث موديلاتها.
لم تُخض معركتها من أجل بناء دولة، بل من أجل تمكينها. لم يكن هدفها إنهاء الفساد، بل احتكار منافذه.
وعدت الناس بالعدالة، فأنشأت أجهزة أمنية تعتقلهم باسم الوطن والدين، وأعادت صياغة مؤسسات الدولة على مقاس المذهب، والولاء، والطاعة المطلقة.
في خطابها، تبنت مفردات الثورة، لكنها في ممارستها أعادت إنتاج الدولة القمعية الفاسدة المستبدة، بأدوات أكثر دهاء.
حولت المساجد إلى منابر للتعبئة، والتعليم إلى وسيلة لتلقين الرؤية الطائفية، والدين إلى سلطة فوق الدولة والمجتمع.
كل من خالفها، أصبح متهمًا بالخيانة أو التآمر. أما المواطن، فتحول إلى رعية خاضعة، لا صوت لها إلا ما يسمح له به، ولا رأي له إلا ما يتناغم معها.
تقاسمت هذه الجماعات، رغم خلافاتها المعلنة، النفوذ والثروات في مختلف المناطق، ومزقت لترجمة ذلك التراب الوطني مزقت النسيج الاجتماعي، أعادت البلاد إلى مربع الصراع الأهلي.
دمرت ما تم بناؤه خلال سنوات طويلة من العمل المتواضع وشبه المؤسسي، وحرمت المواطنين من أبسط الخدمات، من الكهرباء إلى الرواتب، ومن الصحة إلى التعليم.
حتى الماء، إلى درجة أن الشعب بدأ يرى أن حاله قبل مجيئها كان أفضل، وأن ما وعدت به لم يكن إلا سرابا.
ثم راحت كل جماعة تلقي باللوم على الأخرى، بينما المواطن وحده يدفع الثمن من أمنه ولقمته وكرامته.
وعدت بدعم الغذاء والدواء فجعلته الأغلى عالمياً، وعدت بإلغاء الجرع فصارت، لا تعد ولا تحصى نتائجها.
ولم تكتفي بذلك حتى أنها استطاعت جر الأحزاب شبه المدنية إلى مربعاتها الأيديولوجية وصراعاتها الطائفية، التي كثيرًا ما تمول وتوجه من الخارج.
ومعها أيضًا جرت بقايا النظام السابق، ممن كانوا يتقنون البقاء في السلطة بأي ثمن، فوجدوا في تلك الجماعات مراكب جديدة تعيدهم إلى الواجهة.
فتشكل مشهد سياسي مشوه، لا يحكمه منطق الدولة، بل مزيج من المشاريع الفئوية والمصالح المتصارعة، حيث ضاعت بوصلة الوطن، وذابت الفروق بين من كان ضحية ومن أصبح جلاد.
الجماعات الدينية في اليمن لم تفشل فقط في تقديم نموذج عادل، بل عمقت الانقسام، ورسخت الطائفية، والمناطقية، وأدخلت البلاد في نفق لا يبدو له مخرج قريب.
استولت على مؤسسات الدولة، وحولت المظلومية إلى مظلة لقمع الآخر، وسعت إلى فرض نمط حياة واحد، ومذهب واحد، وهوية واحدة، في مجتمع متعدد بطبعه وتاريخه وثقافته.
الخطر في هذا النموذج لا يكمن فقط في استبداده، بل في إحاطته بهالة من القداسة.
فهو لا يقدم نفسه كسلطة سياسية قابلة للنقد والتقييم، بل كظل إلهي في الأرض، من خالفه فقد خالف الدين، ومن رفضه فقد رفض الحق.
هذا ما يجعل الطغيان الجديد أشد خطراً من سابقيه، لأنه طغيان مسنود بالعقيدة، ومحصن باسم الله.
اليمن اليوم يدفع ثمن هذا التحول العنيف من مظلومية كانت تطمح إلى التغيير، إلى سلطات لا تختلف كثيرًا عن أنظمة القمع التي عرفتها المنطقة، سوى في الشعارات والأقنعة.
والمفارقة المؤلمة أن جلادي اليوم، هم ذاتهم من وقفوا بالأمس بين صفوف الضحايا.